أين تولد أحاسيسك؟.. عزيزي القارئ: يستطيع الإنسان صاحب العقل والإرادة -بل وينبغي عليه- أن يتدرّب على سلوك التحكّم في الذات حتى يصير عادةً له يفعلها تلقائيًا وأن يسخّر طاقاته الانفعالية للبناء لا للتخريب.
وضمن محور التعرّف على أسباب تفجّر الأحاسيس وطرق التحكّم بها نتابع في السطور التالية حديثنا عن مصادر الأحاسيس.
هناك ثلاثة مصادر أساسية للأحاسيس هي: الإدراك، والتخيّل، والذاكرة. تحدّثنا في الجزء السابق من هذه المقالة عن الإدراك وبدأنا الحديث عن التخيّل والتدريبات الذهنيّة. في السطور التالية نتابع حديثنا عن التدريبات الذهنية، ثمّ نتناول المصدر الثالث: الذاكرة.
التخيّل موردٌ لا ينضب لبناء الواقع أو لتدميره!
رأينا كيف أنّ التدريب الذهنيّ يعني تدريب عقلك مقدّمًا على التعامل مع الحياة بنجاح، ولكنّنا مع ذلك نشاهد معظمَ الناس لا يقوم بالتدريب الذهنيّ ويتعامل مع الحياة بتلقائيات الماضي التي يكون 90%منها سلبيًا.
لذا يجب على الإنسان أن يغير طريقته في التعامل مع الحياة عن طريق تدريب أحاسيسه، وهناك الكثير من الكتب التي تناولت موضوع الذكاء العاطفيّ، والذكاء الإحساسيّ، وعالجت موضوع التحكّم في الأحاسيس الذي يعدّ من أهمّ أهداف الجنس البشري.
ويستخدم الـ Autogenics في التحكّم في الأحاسيس، لأنّ التخيّل تنبع منه الأحاسيس. فقد يتخيّل المرء نفسه وهو يحقق أهدافه ويربط بها أحاسيس إيجابية، فيعتقد العقل اللاواعي أن ذلك حقيقة (والعقل اللاواعي سمّي بلك لأنّه لا يعي الأشياء وإنما يقوم فقط بتخزينها وإخراجها في نفس صورتها المخزّنة) وهذه إحدى عجائب خلق الله.
فيجب على المرء أن يتعلّم كيف يعمل عقله وما يتكوّن منه من عقول حتّى يصبح أقرب إلى التحكّم في ذاته وحياته أسعد. وأمّا حينما يعمل العقل اللاواعي دون توجيه فتظهر التلقائيات: يغضب المرء، ويدخّن، ويتصرّف دون تفكير.
ثالثًا: الذاكرة:
هي تنبع من الماضي، ويمكن للمرء أن يستخدمها في الحاضر ويجب أن نعلم أنّ الإدراك والتذكّر والتخيّل تعمل معًا، فقد يفتح العقل ملفًا من الذاكرة فيدرك ما بداخله سواء أكان الفرد واعيًا أم غير واع.
وقد يشعر المرء بالضيق أو بالغضب ولا يعرف لذلك سببًا ويحدث هذا لأنّ هناك بعض الملفّات العقلية المخزن بداخلها مشاعر وأحاسيس سلبية تم فتحها واستدعاؤها من الذاكرة. لذا ننصح دائمًا بتنظيف الماضي، وتغيير الإدراك الذي حدث فيه وتحويله إلى تجربة وخبرات وقدرات ومهارات. ومن ثم عندما يفكر فيها المخ وتفتح الذاكرة يصبح الماضي إيجابيًا ومفيدًا.
لولا الماضي لما كان الحاضر، فبالماضي اكتسبت تلك المعلومات والأفكار والأحاسيس وأقدمت بها على حاضرك. الماضي يعلّمك. فإن تصرّفت بالطريقة السلبية السابقة فلن تتعلم شيئًا وبهذا تتقدم في السن ولا ترتقي في العلم والمعرفة. لكنّك كلّما تعلّمت من ماضيك بما فيه من تجارب وخبرات أصبحت أقدر على التعامل مع الحياة وأسعد في حياتك.
الذاكرة تولّد الأحاسيس.. ماضينا يصنع حاضرنا:
بمجرد أن يفكّر الإنسان في أمرٍ ما ينتقل المخ إلى الذاكرة ويدرك ذلك الأمر.فهو ينتقل إلى الذاكرة عبر التخيّل. فالإدراك والتذكّر والتخيّل تعمل معًا. وهذه هي المصادر الأساسية التي تنبع منها الأحاسيس سواء أكانت إيجابية أم سلبية.
يشعر الإنسان بالضيق لأنّ المخّ عند تخيّل حدثٍ ما فإنه يفتح ملفّاته العقلية ويدركها، ثم يصل إلى المرحلة الثالثة فيفتح الذاكرة ويضيف إليها أحاسيس سلبية جديدة.
إذا حدث خلاف بينك وبين شخص ما أو حدث موقف سلبي ففتحت الملفات العقلية ولم تغلقها (أي إن الحالة لم تنته بصلح أو تفاهم) كأن يحدث خلاف بينك وبين أحد أقاربك ثم تمتد القطيعة بينكما ولا تتصالحان، ثمّ تقابلتما في الفترة المنقضية بين القطيعة واللقاء يحدث ما يسمى بالفراغ العاطفيّ.
عندما ينفصل اثنان يشتاق كل منهما للآخر ويحدث الفراغ العاطفيّ، ويصبح أحدهما مستعدًا للتنازل، وتكمن خطورة التنازل فيما يستتبعه من ندم، لأنّه يكون حينها غير متزن، كلُّ همّه أن يكون مع الآخر في وفاق.
فإذا اختلفت مع أخيك أو أختك ثم تصالحتما دون أن تناقشا ما حدث، ولم تتعلّما منه فبمجرّد أن يحدث خلاف مرةً أخرى يقوم المخ بتفجير التجربة السابقة مع الحالية، فيثور الشخص ثورةً عارمة. ومن هنا يجب أن يكون ثمة نقاش وتعلّم من تجارب الماضي السلبية حتّى لا تخزّن في المخ بصورتها السلبية ويبنى عليها المستقبل.
يسمّي عملاء النفس التجارب التي تمضي دون نقاش أو تعلّم بـِ unfinished business (الأعمال المعلّقة) كأن يختلف الزوجان على أمر ثم يتصالحان دون أن يحلّلا الموقف ويستفيدا منه (وهناك اثنا عشر أمرًا أساسيًا يختلف الناس فيها) فتتفتّح الاختلافات ولا تغلق ملفّاتها وتتراكم الأحاسيس، فتثور المشكلات في كل مرة بصورة أقوى من التي قبلها.
ومن ذكرياتنا يبنى مستقبلنا.. فأيّ ذكريات نستخدم؟
لا يمكن أن تدرك دون أن تفتح الذاكرة ملفًا، ولا يتمّ ذلك دون تخيّل. لا يمكن أن تدرك أمرًا سيحدث في المستقبل دون أن تفتح ملفًا من الذاكرة لكي تتعرف على معلومة ما ثم تتخيّلها في المستقبل، ولا يمكن أن تتخيّل ما سيحدث في المستقبل دون أن يكون لك أهداف.
فمثلًا: إذا كنت تطمح إلى أن تكون مديرًا عامًا فلا شك في أنّ في ذاكرتك تصوّرًا لمعنى كونك مديرًا عامًا، فإن لم يكن هناك معنى فلا توجد ذاكرة، وبالتالي لا يوجد إدراك.
وحتّى تتم هاتان العمليتان لا بدّ من التخيّل، لتتحرّك عبر الحاضر إلى الماضي والمستقبل، فالإنسان يتخيّل أمورًا كثيرة لم تقع بعد ويولّد ذلك التخيّل القلق إذا كانت أمورًا غير سارة، فهو يعرفُ معنىً حتّى للأمور التي لم تحدث بعد.
فإذا قفز الإنسان بخياله إلى المستقبل وتخيّل أنّ حدثًا غير سار سيقع فشعر بالقلق فإنّ المخ يفتح الملفات العقلية في الذاكرة ويستخرج منها الأحاسيس المصاحبة للقلق فيشعر بالضيق والحزن وتتراكم هذه الأحاسيس السلبية في الذاكرة، وربما لا يقع ما يخشاه ويحاذره.
الكاتب: د. إبراهيم الفقي
المصدر: موقع المستشار